فصل: (دَرَجَاتُ الْجَمْعِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.[دَرَجَاتُ الْجَمْعِ]:

قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْجَمْعُ: جَمْعِ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعِ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعِ عَيْنٍ، فَأَمَّا جَمْعُ الْعِلْمِ: فَهُوَ تَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا.
عُلُومُ الشَّوَاهِدِ هِيَ مَا حَصَلَتْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَبِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، فَالْمَصْنُوعَاتُ شَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ وَآثَارٌ، وَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ: هِيَ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الْحَاصِلَةِ عَنْهَا، وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ إِلْهَامًا بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ لَدُنِّيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْعِبَادَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَخَصُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَبَيْتِهِ وَنَاقَتِهِ وَبَلَدِهِ وَعَبْدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَضْمَحِلُّ الْعُلُومُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، الْحَاصِلِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، هَذَا مَضْمُونُ كَلَامِهِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ: هُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا مَا يَدَّعِي حُصُولَهُ بِغَيْرِ شَاهِدٍ وَلَا دَلِيلٍ: فَلَا وُثُوقَ بِهِ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ، نَعَمْ قَدْ يَقْوَى الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالشَّوَاهِدِ وَيَتَزَايَدُ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَعْلُومُ كَالْمَشْهُودِ، وَالْغَائِبُ كَالْمُعَايَنِ، وَعِلْمُ الْيَقِينِ كَعَيْنِ الْيَقِينِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ شُعُورًا أَوَّلًا، ثُمَّ تَجْوِيزًا، ثُمَّ ظَنًّا، ثُمَّ عِلْمًا، ثُمَّ مَعْرِفَةً، ثُمَّ عِلْمَ يَقِينٍ، ثُمَّ حَقَّ يَقِينٍ، ثُمَّ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ تَضْمَحِلُّ كُلُّ مَرْتَبَةٍ فِي الَّتِي فَوْقَهَا، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهَا دُونَهَا، فَهَذَا حَقٌّ.
وَأَمَّا دَعْوَى وُقُوعِ نَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ التَّعْرِيفَاتِ بِأَسْبَابِهَا، كَمَا رَبَطَ الْكَائِنَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا يَحْصُلُ لِبِشْرٍ عِلْمٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَيَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُسُلَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي دَلَّتْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَّتْ أُمَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَعْظَمُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ بَرَاهِينُهُمْ أَدِلَّةً وَشَوَاهِدَ لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ، فَالْأَدِلَّةُ وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، وَمَعَهُمْ أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ بِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ فَدَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَحُكْمٌ لَا بُرْهَانَ عِنْدَ قَائِلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَدُنِّيًّا.
فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ: مَا قَامَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَدُنِّيٌّ مِنْ لَدُنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَقَدِ انْبَثَقَ سَدُّ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَرَخُصَ سِعْرُهُ، حَتَّى ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَدُنِّيٌّ، وَصَارَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ وَبَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِمَا يَسْنَحُ لَهُ، وَيُلْقِيهُ شَيْطَانُهُ فِي قَلْبِهِ: يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَدُنِّيٌّ، فَمَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَزَنَادِقَةُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلْمَهُمْ لَّدُنِّيٌّ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مُتَهَوِّكُو الْمُتَكَلِّمِينَ، وَزَنَادِقَةُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَجَهَلَةُ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَكُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَّدُنِّيٌّ، وَصَدَقُوا وَكَذَبُوا فَإِنَّ اللَّدُنِّيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى لَدُنْ بِمَعْنَى عِنْدَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ الْعِنْدِيُّ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَنْ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِأَبْلَغِ الذَّمِّ مَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقال تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فَكُلُّ مَنْ قَالَ: هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- وَهُوَ كَاذِبٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ- فَلَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يَذُمُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَجَعَلَ أَشَدَّهَا: الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَجَعَلَهُ آخِرَ مَرَاتِبِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ، فَالْقَائِلُ: إِنَّ هَذَا عِلْمٌ لَّدُنِّيٌّ، لِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا قَامَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ: كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، وَأَكْذَبِ الْكَاذِبِينَ.
قَوْلُهُ: وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا.
تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ: هُوَ فَنَاءُ الْعَبْدِ فِي الشُّهُودِ، وَنِهَايَةُ الِاتِّصَالِ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ بَابِ الِاتِّصَالِ أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ، فَحَقِيقَةُ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: تَلَاشِي ذَلِكَ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ، أَيْ فِي حَقِيقَتِهِ، وَيُرِيدُ بِالْوُجُودِ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ بَابِ الْوُجُودِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وُجُودُ الْحَقِّ: وُجُودُ عَيْنٍ، مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ فَتَضْمَحِلُّ نِهَايَةُ الِاتِّصَالِ فِي هَذَا الْوُجُودِ مَحْقًا أَيْ ذَوَبَانًا وَفَنَاءً.
قَوْلُهُ: وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا.
تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ أَيْ تَحَمِلُهُ وَتَقُومُ بِهِ وَالْإِشَارَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّأْسِ فَتَكُونُ إِيمَاءً، وَتَارَةً تَكُونُ بِالْعَيْنِ فَتَكُونُ رَمْزًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِاللَّفْظِ فَيُسَمَّى تَعْرِيضًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِالذِّهْنِ وَالْعَقْلِ، فَتَضْمَحِلُّ كُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَتَبْطُلُ عِنْدَ شُهُودِ الْعَيْنِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَظُهُورِ جَلَالِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالذَّاتُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.
فَعَرَفْتَ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى يَغِيبُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: يَغِيبُ عَنِ اتِّصَالِهِ وَشُهُودِ اتِّصَالِهِ بِالْوُجُودِ، فَإِنَّ الْوُجُودَ فَوْقَ الِاتِّصَالِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَهَذَا كَمَا يَغِيبُ الْوَاجِدُ الَّذِي قَدْ ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ شُهُودِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ وَاتِّصَالِهِ بِهِ، فَتُفْنِيهِ عَيْنُ وُجُودِهِ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهَا، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: يَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا تَحْمِلُهُ الْإِشَارَةُ- إِلَى ذَاتٍ، أَوْ إِلَى صِفَةٍ، أَوْ حَالٍ، أَوْ مَقَامٍ- فِي ذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ سِوَاهُ.

.[الْجَمْعُ غَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ]:

قَوْلُهُ: وَالْجَمْعُ: غَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ طَرَفُ بَحْرِ التَّوْحِيدِ.
وَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ مَا دَامَ فِي سُلُوكِهِ فَهُوَ فِي تَفْرِقَةِ الِاسْتِدْلَالِ، وَطَلَبِ الشَّوَاهِدِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَصَارَ هَمُّهُ هَمًّا وَاحِدًا- لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، وَبِاللَّهِ- يَنْزِلُ فِي مَنْزِلَةِ الْجَمْعِ وَيُشَمِّرُ لِرُكُوبِ بَحْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي يَتَلَاشَى فِيهِ كُلُّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَالْجَمْعُ عِنْدَهُ: نِهَايَةُ سَفَرِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَقَامِ السَّالِكِينَ: التَّوْبَةُ الَّتِي هِيَ بِدَايَاتُ مَنَازِلِهِمْ.
وَلَعَلَّ سَمْعَكَ يَنْفِرُ مِنْ هَذَا غَايَةَ النُّفُورِ، وَتَقُولُ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ، وَلَا نَزَلَ فِي مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُوَافِقُكَ عَلَى هَذَا، وَيَقُولُ: أَيْنَ كُنَّا؟ وَأَيْنَ صِرْنَا؟ نَحْنُ قَدْ قَطَعْنَا مَنْزِلَةَ التَّوْبَةِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِائَةُ مَقَامٍ، فَنَرْجِعُ مِنْ مِائَةِ مَقَامٍ إِلَيْهَا، وَنَجْعَلُهَا غَايَةَ مَقَامِ السَّالِكِينَ؟
فَاسْمَعِ الْآنَ وَعِهْ، وَلَا تَعْجَلْ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا تُبَادِرْ بِالرَّدِّ، وَافْتَحْ ذِهْنَكَ لِمَعْرِفَةِ نَفْسِكَ، وَحُقُوقِ رَبِّكَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْكَ، وَمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ، ثُمَّ انْسِبْ أَعْمَالَكَ وَأَحْوَالَكَ وَتِلْكَ الْمَنَازِلَ الَّتِي نَزَلْتَهَا وَالْمَقَامَاتِ الَّتِي قُمْتَ فِيهَا- لِلَّهِ وَبِاللَّهِ- إِلَى عَظِيمِ جَلَالِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، فَإِنْ رَأَيْتَهَا وَافِيَةً بِذَلِكَ مُكَافِئَةً لَهُ فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا رُجُوعٌ عَنِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، وَانْحِطَاطٌ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَرُجُوعٌ مِنْ غَايَةٍ إِلَى بِدَايَةٍ، وَمَا ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى هَذَا الشَّأْنِ، الْمَغْرُورِينَ بِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَإِشَارَاتِهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا قُمْتَ بِهِ- مِنْ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَإِنَابَةٍ، وَتَوَكُّلٍ، وَزُهْدٍ وَعِبَادَةٍ- لَا يَفِي بِأَيْسَرِ حَقٍّ لَهُ عَلَيْكَ، وَلَا يُكَافِئُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ عِنْدَكَ، وَأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ- لِجَلَالَتِهِ وَعَظْمَتِهِ- أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْخَلْقُ.
فَاعْلَمِ الْآنَ: أَنَّ التَّوْبَةَ نِهَايَةُ كُلِّ عَارِفٍ، وَغَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ، وَكَمَا أَنَّهَا بِدَايَةٌ فَهِيَ نِهَايَةٌ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ، بَلْ هِيَ فِي النِّهَايَةِ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ.
فَاسْمَعِ الْآنَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ عِنْدَ النِّهَايَةِ، وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَشَدَّ مَا كَانَ اسْتِغْفَارًا وَأَكْثَرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ الْغَزَوَاتِ الَّتِي غَزَاهَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ شُكْرَانًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ الْجِهَادُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا صَلَّى صَلَاةً- بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ- إِلَّا قَالَ فِيهَا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا فَهِمَ مِنْهَا عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ- كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ أَجَلَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَعْلَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي نِهَايَةِ أَحْوَالِهِ، وَآخِرِ أَمْرِهِ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا وَحَالًا، وَآخِرُ مَا سُمِعَ مِنْ كَلَامِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَبِّهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَكَانَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْتِمُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ بِالِاسْتِغْفَارِ، كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ وَشَرَّعَ أَنْ يُخْتَمَ الْمَجْلِسُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ، وَشَرَّعَ أَنْ يَخْتِمَ الْعَبْدُ عَمَلَ يَوْمِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَيَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَنْ يَنَامَ عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ.
وَالْعَارِفُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَحُقُوقِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى التَّوْبَةِ فِي نِهَايَتِهِ، وَأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالِاتِّصَالِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ، وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَجَمْعِ الْعَيْنِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ أَعْلَى مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَغَايَةُ مَطْلَبِ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَتَصَوَّرُهُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا بِصُعُوبَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَوْ سَمِعَهُ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لَمَا فَهِمُوهُ، وَلَا عَرَفُوا الْمُرَادَ مِنْهُ إِلَّا بِتَرْجَمَةٍ؟ فَأَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ- الَّذِينَ نِسْبَةُ مَعَارِفِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى مَعَارِفِهِمْ كَنِسْبَةِ فَضْلِهِمْ وَدِينِهِمْ وَجِهَادِهِمْ إِلَيْهِمْ- مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ؟ فَصَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ- أَرْبَابَ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَالْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ-: أَعْرَفَ بِمَقَامَاتِ السَّالِكِينَ وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَغَايَاتِهَا مِنْ أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ بَعْدَ رُسُلِهِ؟! هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ.
وَهَؤُلَاءِ فِي بَابِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ وَالسُّلُوكِ نَظِيرُ أَرْبَابِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَالطَّائِفَتَانِ- بَلْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ- مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَشَدَّ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ.
فَلَا تَجِدُ هَذَا التَّكْلِيفَ الشَّدِيدَ، وَالتَّعْقِيدَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَصْلًا.
وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ كَلَحْمِ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلَ فَيَرْتَقِي، وَلَا سَمِينَ فَيَنْتَقِلُ، فَيُطَوِّلُ عَلَيْكَ الطَّرِيقَ، وَيُوَسِّعُ لَكَ الْعِبَارَةَ، وَيَأْتِي بِكُلِّ لَفْظٍ غَرِيبٍ وَمَعْنًى أَغْرَبَ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا وَصَلْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَكَ حَاصِلًا طَائِلًا، وَلَكِنْ تَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا تَرَى طَحْنًا، فَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي جَعَاجِعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَكْوَانِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَالْأَحْوَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ، وَالْجِهَاتِ وَالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَالْغَيْرَيْنِ وَالْخِلَافَيْنِ، وَالضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعَرَضُ هَلْ يَبْقَى زَمَانَيْنِ؟ وَمَا هُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ؟ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَعْرِفِ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ الْوُجُودَ: هَلْ هُوَ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهَا؟ وَيَعْتَرِفُ: أَنَّهُ شَاكٌّ فِي وُجُودِ الرَّبِّ: هَلْ هُوَ وُجُودٌ مَحْضٌ، أَوْ وُجُودٌ مُقَارِنٌ لِلْمَاهِيَّةِ؟ وَيَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَيَقُولُ أَفْضَلُهُمْ- عِنْدَ نَفْسِهِ- عِنْدَ الْمَوْتِ: أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَرَفْتُ إِلَّا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إِلَى وَاجِبٍ، ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَأَمُوتُ وَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ: أَرْبَابُ الْكَلَامِ.
وَآخَرُونَ أَعْظَمُ تَكَلُّفًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَهُمْ: أَرْبَابُ الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ وَالْأَسْطُقُّصَّاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْعِلَلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْمُفَارَقَاتِ، وَالْمُجَرَّدَاتِ، وَالْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ، وَالْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَالْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُوَجَّهَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُسَوَّرَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُهْمَلَاتِ، فَهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ تَكَلُّفًا، وَأَقَلُّهُمْ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّفُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَأَرْبَابِ الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَالْبَادِيِ وَالْبَاذِهِ وَالْوَارِدِ، وَالْخَاطِرِ وَالْوَاقِعِ وَالْقَادِحِ وَاللَّامِعِ، وَالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ، وَالْمُحِقِّ وَالْحَقِّ، وَالسُّكْرِ، وَاللَّوَائِحِ وَالطَّوَالِعِ، وَالْعَطَشِ وَالدَّهَشِ، وَالتَّلْبِيسِ، وَالتَّمْكِينِ وَالتَّلْوِينِ، وَالِاسْمِ وَالرَّسْمِ، وَالْجَمْعِ وَجَمْعِ الْجَمْعِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَالْأَثَرِ، وَالْكَوْنِ، وَالْبَوْنِ، وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، وَالْمُسَامَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَالتَّجَلِّي، وَالتَّخَلِّي، وَأَنَا بِلَا أَنَا، وَأَنْتَ بِلَا أَنْتَ، وَنَحْنُ بِلَا نَحْنُ، وَهُوَ بِلَا هُوَ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى تَكَلُّفِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَتَنَطُّعِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ لَهُمْ مِثْلُ هَذَا التَّكَلُّفِ وَأَعْظَمُ مِنْهُ.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ بِمَا لَدَيْهِمْ، مَوْقُوفُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ، خَاضُوا- بِزَعْمِهِمْ- بِحَارَ الْعِلْمِ، وَمَا ابْتَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ، وَكَدُّوا أَفْكَارَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ، وَمَا اسْتَنَارَتْ بِالْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرُّسُلِ قُلُوبُهُمْ وَأَفْهَامُهُمْ، فَرِحِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ رَاضِينَ بِمَا قُيِّدُوا بِهِ مِنَ الرُّسُومِ، فَهُمْ فِي وَادٍ وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي وَادٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَتَجَاوَزْ فِيهِمُ الْقَوْلَ، بَلْ قَصَرْنَا فِيمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقُولَهُ، فَذَكَرْنَا غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ، وَقَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ.
وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ الرَّأْيِ، الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ.
فَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ حَقًّا، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَقَالَ أَيْضًا: أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْوُوهَا، فَاشْتَغَلُوا عَنْهَا بِالرَّأْيِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي؟ وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ إِنْ قَلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ، وَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصِيبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يُرِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى الدِّينِ، فَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَأْيِي، أَجْتَهِدُ، وَاللَّهِ مَا آلُو ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ، فَقَالُوا: تَكْتُبُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَيْتُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، تَرَانِي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى؟ وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسَدِّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْمَعَانِي الَّتِي نَجِدُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ تَنَطُّعًا فَلَيْسَ لِلتَّنَطُّعِ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [نِهَايَةُ السَّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَرْفًا]:

فَإِنْ لَمْ يَسْمَحْ قَلْبُكَ بِكَوْنِ التَّوْبَةِ غَايَةَ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَلَمْ تُصْغِ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَتَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَجَمْعُ الْوُجُودِ وَجَمْعُ الْعَيْنِ: هُوَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ سَالِكٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ بِمُجَرَّدٍ لَا يُعْطِي عُبُودِيَّةً وَلَا إِيمَانًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ كُلِّ نَبِيٍّ وَوَلِيٍّ وَعَارِفٍ، فَإِنَّ هَذَا الْجَمْعَ يَحْصُلُ لِلصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ، وَلِلْمَلَاحِدَةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ مِنْهُ حَظٌّ كَبِيرٌ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُونَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ، فَأَيْنَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهَا، وَاحْتِمَالُ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَأَدَائِهَا، وَالْجِهَادُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَحَمُّلُ الْأَذَى فِي اللَّهِ فِي هَذَا الْجَمْعِ؟! وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِيهِ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى، وَيَكْرَهُهُ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ وَشَرِّ الشَّرَّيْنِ فِيهِ؟ وَأَيْنَ الْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ الْعُبُودِيَّةِ وَمَنَازِلِهَا فِيهِ؟!.
فَالْحَقُّ أَنَّ نِهَايَةَ السَّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَرْفًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِبَنِي الطَّبِيعَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ الْخَلِيلَانِ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ وَفَّى، وَأَمَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ كَمَّلَ مَرْتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ، فَكَانَ صَاحِبَ الْوَسِيلَةِ وَالشَّفَاعَةِ الَّتِي يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَيَقُولُ هُوَ: أَنَا لَهَا، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِهِ، وَأَشْرَفِ أَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَسِيحُ، حِينَ يُرْغَبُ إِلَيْهِ فِي الشَّفَاعَةِ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاسْتَحَقَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَبِكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ.
فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ غَايَةَ الْمَقَامَاتِ وَنِهَايَتَهَا: هُوَ التَّوْبَةُ وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَحْضَةُ، لَا جَمْعُ الْعَيْنِ، وَلَا جَمْعُ الْوُجُودِ، وَلَا تَلَاشِي الِاتِّصَالِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا الْجَمْعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِذَلِكَ: هُوَ جَمْعُ الرُّسُلِ وَخُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَمُرَاقَبَةً، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ دَعْوَةً وَجِهَادًا، فَهُمَا جَمْعَانِ: جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى الْمَعْبُودِ وَحْدَهُ، وَجَمْعُ الْهَمِّ لَهُ عَلَى مَحْضِ عُبُودِيَّتِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ شَاهِدُ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ؟ قُلْتُ: فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَخُذْهُ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَتَأَمَّلْ مَا فِي قَوْلِهِ {إِيَّاكَ}: التَّخْصِيصُ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: {نَعْبُدُ} الَّذِي هُوَ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَلِلْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، حَالًا وَاسْتِقْبَالًا، قَوْلًا وَعَمَلًا، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الطَّرِيقُ كُلُّهَا فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الطَّرِيقُ فِي: إِيَّاكَ أُرِيدُ بِمَا تُرِيدُ، فَجَمَعَ الْمُرَادَ فِي وَاحِدٍ، وَالْإِرَادَةَ فِي مُرَادِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَإِلَى هَذَا دَعَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَإِلَيْهِ شَخَصَ الْعَامِلُونَ، وَتَوَجَّهَ الْمُتَوَجِّهُونَ، وَكُلُّ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا- مُنْدَرِجَةٌ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ وَمُوجِبَاتِهِ.
فَالْعُبُودِيَّةُ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ فِي كَمَالِ الذُّلِّ، وَكَمَالَ الِانْقِيَادِ لِمَرَاضِي الْمَحْبُوبِ وَأَوَامِرِهِ، فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى الْقِيَامِ بِحَقِيقَتِهَا- كَمَا يَجِبُ- سَبِيلٌ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ الْمِعْوَلُ وَالْآخِيَّةُ، وَقَدْ عَرَفْتَ- بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ- أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ، وَلَوْلَا تَنَسُّمُ رُوحِهَا لَحَالَ الْيَأْسُ بَيْنَ ابْنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا لَوْ قَامَ بِمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ لِسَيِّدِهِ مِنْ حُقُوقِهِ، فَكَيْفَ وَالْغَفْلَةُ وَالتَّقْصِيرُ وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّهَاوُنُ، وَإِيثَارُ حُظُوظِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَلَى حُقُوقِ رَبِّهِ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا، وَلَاسِيَّمَا السَّالِكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ؟ لِأَنَّ رَبَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَنَفْسُهُ تُطَالِبُهُ بِالْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ مَعَ نَفْسِهِ وَحَاسَبَهَا حِسَابًا صَحِيحًا لَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَظَّهُ يُرِيدُ، وَلَذَّتَهُ يَطْلُبُ، نَعَمْ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ صَارَ حَظُّهُ نَفْسَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَحَابِّهِ، أَحَبَّتْ ذَلِكَ نَفْسُهُ أَوْ كَرِهَتْهُ، وَبَيْنَ مَنْ حَظُّهُ مَا يُرِيدُ مِنْ رَبِّهِ، فَالْأَوَّلُ: حَظُّهُ مُرَادُ رَبِّهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا حَظُّهُ مُرَادُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْبَابُ مُسَلَّمٌ لِأَهْلِ الذَّوْقِ، وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ لَا بِلِسَانِ الذَّوْقِ، وَالذَّائِقُ وَاجِدٌ، وَالْوَاجِدُ لَا يُمْكِنُهُ إِنْكَارُ مَوْجُودِهِ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْعِلْمِ، بَلْ يَدْعُوهُ إِلَى ذَوْقِ مَا ذَاقَهُ، وَيَقُولُ:
أَقُولُ لِلَّائِمِ الْمُهْدِي مَلَامَــتَهُ ** ذُقِ الْهَوَى وَإِنِ اسْطَعْــتَ الْمَلَامَ لُمْ

قِيلَ: لَمْ يُنْصِفْ مَنْ أَحَالَ عَلَى الذَّوْقِ، فَإِنَّهَا حِوَالَةٌ عَلَى مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى حَاكِمٍ، وَعَلَى مَشْهُودٍ لَهُ، لَا عَلَى شَاهِدٍ، وَعَلَى مَوْزُونٍ، لَا عَلَى مِيزَانٍ.
وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! هَلْ يَدُلُّ مُجَرَّدُ ذَوْقِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْأَذْوَاقَ وَالْمَوَاجِيدَ حُجَجًا وَأَدِلَّةً، يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: لَاحْتَجَّ كُلُّ مُبْطِلٍ عَلَى بَاطِلِهِ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِلْحَادِ، فَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ- وَهُمْ أَكْفَرُ الْخَلْقِ- يَحْتَجُّونَ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ حَتَّى لَيَقُولُ قَائِلُهُمْ:
يَا صَاحِبِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُــرُنِـي ** وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نَهَّـــاءٍ وَأَمَّـارِ

فَإِنْ أُطِعْكَ وَأَعْصِ الْوَجْدَ رُحْتُ عَـمٍ ** عَنِ الْيَقِــينِ إِلَى أَوْهَامِ أَخْبَــارِ

وَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِـي إِلَــيْهِ إِذَا ** حَقَّقْــتُهُ بَدَّلَ الْمَنْهِـيَّ يَـا جَارِ

وَيَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ: ثَبَتَ عِنْدَنَا- بِالْكَشْفِ وَالذَّوْقِ- مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ، وَكُلُّ مُعْتَقِدٍ لِأَمْرٍ جَازِمٍ بِهِ، مُسْتَحْسِنٌ لَهُ: يَذُوقُ طَعْمَهُ، فَالْمُلْحِدُ يَذُوقُ طَعْمَ الِاتِّحَادِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ الدِّينِ، وَالرَّافِضِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ الرَّفْضِ، وَمُعَادَاةِ خِيَارِ الْخَلْقِ، وَالْقَدَرِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ إِنْكَارِ الْقَدَرِ، وَيَعْجَبُ مِمَّنْ يُثْبِتُهُ، وَالْجَبْرِيُّ عَكْسُهُ، وَالْمُشْرِكُ يَذُوقُ طَعْمَ الشِّرْكِ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَسْتَبْشِرُ إِذَا ذُكِرَ إِلَهُهُ وَمَعْبُودُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَشْمَئِزُّ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ.
وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ قَدْ سَلَكَهُ أَرْبَابُ السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ الشَّيْطَانِيِّ، الَّذِي هُوَ مَحْضُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبَاحَةِ هَذَا السَّمَاعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَاللَّذَّةِ، وَأَنْتَ تَجِدُ النَّصْرَانِيَّ لَهُ فِي تَثْلِيثِهِ ذَوْقٌ، وَوَجْدٌ وَحَنِينٌ، بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْعَذَابِ لَاخْتَارَهُ، دُونَ أَنْ يُفَارِقَ تَثْلِيثَهُ، لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ.
وَحِينَئِذٍ، فَيُقَالُ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ، وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمُنْكِرَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِ الذَّوْقِ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَوْقُ الذَّائِقِ لِذَلِكَ حُجَّةً صَحِيحَةً نَافِعَةً لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا الْمُنْكِرَ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا مَحْجُوبٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَا أَنْكَرْتُهُ، غَيْرُ ذَائِقٍ لَهُ، وَأَنْتَ ذَائِقٌ وَاصِلٌ، فَمَا عَلَامَةُ مَا ذُقْتَهُ، وَوَصَلْتَ إِلَيْهِ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وَأَنَا لَا أُنْكِرُ ذَوْقَكَ لَهُ وَوَجْدَكَ بِهِ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْمَذُوقِ لَا فِي الذَّوْقِ، وَإِذَا ذَاقَ الْمُحِبُّ الْعَاشِقُ طَعْمَ مَحَبَّتِهِ وَعِشْقِهِ لِمَحْبُوبِهِ، مَا كَانَ غَايَةَ ذَلِكَ: إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ مَحَبَّتِهِ وَعِشْقِهِ، لَا عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ أَوْ ضَارًّا، أَوْ مُوجِبًا لِكَمَالِهِ أَوْ نَقْصِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.